من هيمنة القصص القرآني على قصص الكتب السابقة تصحيح الأخطاء, وكشف ما كان مخفيًّا من تفاصيلها. { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [ المائدة: 48] أي إنك إذا أردت الرواية الحقيقية فعليك بالقرآن؛ لأن هناك أجزاءً من قصص اليهود هذه ستكون موافقةً ( مُصَدِّقًا ) لما في القرآن، كما أن هناك أجزاءً أخرى يصححها ويفصلها ويظهرها القرآن (مُهَيْمِنًا ). أما ذكر المخفي من كتبهم فنجده في قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } [ المائدة: 15 ].

وفي ذلك دليل على أن القرآن الكريم من عند الله حقًّا؛ لأن تفاصيل هذا القصص مشتتة في عدد لا حصر له من كتب أهل الكتاب، كما أن أصحابها لم يجدوها في مكان واحد, ولا زمان واحد, ولا بلغة واحدة, ولا تتبع طائفة واحدة, كما كان أغلبها مخفيًّا, تسمى كتب " الأبوكريفا – السوديبيجرافا "apocrypha - pseudipigrapha.

ثم إن هذه الكتب مليئة بالتفاصيل غير المنطقية – كما سنرى - التي لا نجد منها في القرآن الكريم جزئيةً واحدةً { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء:82].

• من أمثلة ذلك "نبأ ابني آدم" أو قصة قابيل وهابيل التي نجدها على قصرها في القرآن ( ست آيات ) مشتتةً في عدد كبير من كتب ومخطوطات أهل الكتاب. فعدا التوراة الحالية نجد ذلك في الكتب الآتية:

- كتب " التلمود "Talmud: وهو يعني في حرفية الكلمة التعاليم، وهي تعاليم قدامى حاخاماتهم فيما قبل البعثة المحمدية.

- وكتب الترجوم Targum: وتعني الترجمات الآرامية للتوراة.

صورة لمخطوط من المديراش أحد كتب اليهود المقدسة

- وكتب الميدراش Midrash: وتعني دراسات لقدامى الربيين حول التوراة، وهي سلسلة كبيرة من الكتب تختلف كثيرًا مع التوراة نفسها وهي طائفة الكتب الأكثر ذكرًا لهذه القصة ( من أهمها هنا: " بسكيتا رباتي "، " "جنيسيز ربَّا "، "ميدراش بريشيت ربا "، " يشار بريشيت "، " ميدراش هجادول "، " بركي دي رب إلياعازر = فصول الحاخام إلياعازر " ).

• ولنبدأ أولًا بذكر النص القرآني ( الآيات الست ) ثم نشرع في دراسة مصادقة ذلك في كتب اليهود مع ذكر مواقع المصادقة ثم الهيمنة عليها معرجين قبل ذلك على التفاسير القرآنية ذاكرين مصادر الإسرائيليات المذكورة في بعضها.

• قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 27-32 ].

• صدق الرواية القرآنية: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}:

أي إذا أردت التفاصيل التاريخية الحقيقية والمنطقية لهذه القصة اقرأ القرآن الذي يخلو من خرافات وتناقضات سائر الكتب.

وقد تكرر مثل ذلك في سائر القصص القرآني، مثل قوله تعالى: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ... } [ مريم: 34 ], و{ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ... } [ القصص: 3 ], و{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ... } [ آل عمران: 62 ].

• مسألة القربان: { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ }:

كانت التوراة الحالية موافقةً للقرآن الكريم في مسألة القربان مع عدم اهتمام القرآن بنوعية القربان ومهنة كل من قابيل وهابيل التي أسهبت التوراة الحالية فيها هي وكتب الميدراش: بريشيت ربا (22-5), وميدراش هجادول, وفصول إلياعازر 21 ) [ لويس جنـزبرج، قصص اليهود، ص 122 ] التي ذكرت تاريخ تقديم القربان!! وأن ذلك هو اليوم الذي سيقدم فيه شعب إسرائيل - الذي لم يولد بعد ذلك إلا بعشرات القرون!!-. كما أن تلك الكتب ذكرت أن تنافس ابني آدم على الزواج من الأخت الأجمل كان أحد أسباب كراهية قابيل لهابيل وهو ما لم يذكره القرآن.

كما لم يعر القرآن اهتمامًا بكيفية قبول قربان هابيل التي ذكرت كتب الميدراش سالفة الذكر أنها كانت نارًا أرسلت من السماء. بل إن القرآن لم يهتم بذكر اسم الأخوين أصلًا لعدم أهمية ذلك.

• توعد الأخ لأخيه: { قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

صورة لغراب أسود

لم تذكر التوراة الحالية الحوار بين ابني آدم عقب قبول قربان أحدهما بل ذكرت حوارًا آخر بين رب العزة وقابيل إذ سأله تعالى ( حسب التوراة ): أين أخوك؟! ( وكأنه – تعالى الله عن ذلك – لا يعلم) فيجيب قابيل: هل أنا حارس لأخي؟!. ( سفر التكوين 4: 9 ).

أما ذلك الحوار الذي ذكره القرآن في تلك الكتب النادرة التي لا يعلمها إلا المتخصصون من علماء أهل الكتاب. فقوله تعالى على لسان هابيل: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } نجد له قرينةً في الترجمات المقدسية ( الأورشليمية ) لسفر التكوين في التوراة ( 4، 8 ) حيث قال هابيل: " إن الرب يكافئ الأعمال الخيرة دون النظر إلى الأشخاص ".

الآيات الثانية والثالثة والرابعةSad 28 , 29 ,30 المائدة) حوار ابني آدم

بقية الحوار بين ابني آدم - المذكور في هاتين الآيتين - نجده في الميدراش " يشار بريشيت ص 9 " والميدراش شيموت رابا 21، 17 ): " وقال قابيل عندئذٍ: وإذا قتلتك منْ سيطلب الثأر لدمك؟ فأجاب هابيل: إن الرب الذي جلبنا إلى العالم سيثأر لي، وسيطالب بدمي إذا ذبحتني. إن الرب هو الحكم الذي يمكر بالماكرين، وينزل الأعمال الشريرة بالأشرار، وإذا قتلتني سيكون الرب مطلعًا على سرك، وينـزل العقاب بك ولم تثر هذه الكلمات سوى غضب قابيل الذي انقض على أخيه " [ المصدر السابق ص 124 ].

الآية الخامسة ( 31 المائدة): مسألة الغراب

قال تعالى: { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ..}:

مسألة الغراب لم تُذكر في التوراة الحالية, إنما ذكرت في ثلاث كتب من كتب الميدراش ( تنحوما بريشيت 10، بريشيت رابا 22، 8 وفصول الحاخام إليعازر 21. [ المصدر السابق (ص 126) ]

لكن التفاصيل كانت مختلفةً؛ فبينما ذكر القرآن الكريم أن الأخ القاتل هو الذي تعلم من الغراب تقول هذه الكتب أن آدم وحواء هما اللذَيْن تعلما من الغراب وهما اللذَيْن دفنا القتيل.

• ثم تذكر هذه الروايات الكتابية أن الله تعالى قد كافئ هذا الغراب لما فعله أمام آدم وتعليمه كيفية دفن ولده بأن جعل ريش فراخه أبيض اللون لا أسود!! وبالرغم من صحة بياض ريش فراخ الغربان من الناحية العلمية ( كعادة اختلاف فرخ الطير عنه في اللون ) فما وجه المكافأة في ذلك.

• بل إن التراث الرباني عند اليهود يعلق على حادثة القتل بأنه بينما كانت الأرض مسطحة فقد أصبحت الجبال تعمها كعقاب لسيلان دم هابيل عليها!!. ( لويس جنـزبرج، قصص اليهود ص348، المجلس الأعلى للثقافة بمصر ).

• ثم ذكر الميدراش تنحوما ص157 والميدراش برشيت رابا 22،12-13 أن الأرض ارتعدت تحت قدمي قابيل بعد قتله أخيه ثم اجتمعت عليه وحوش الأرض ومن بينها الحية الملعونة! للفتك به انتقامًا لأخيه, وحتى يحميه الرب كتب أحد حروف اسمه على جبينه! المصدر السابق (ص 125 )، بل إن الميدراش السابق ص158 وميدراش أجاداه لسيفر بريشيت 4، 16 قد ذكرا أن الأرض لذلك لم تعد تثمر سوى الأشواك وتغيرت الأرض وتدهورت طبيعتها!! ( المصدر السابق ص 126 ).

• بالطبع الرواية القرآنية خالية تمامًا من هذه الخرافات.

• كما أن هذه الكتب تذكر أن هذا الغراب " أزاح التراب عن بقعة ما بالأرض وأخفى بها طائرًا ميتًا من نوعه بالأرض، واتبع آدم ما فعله الغراب مع هابيل فدفنه بالأرض ".

والحق أن العديد من تفاسير القرآن قد نحت هذا المنحى، [وقد أشار إلى امتلاء كتب المفسرين في هذه القصة بالإسرائيليات العلَّامة أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (4/124): "هذا من قصص أهل الكتاب ليس له أصل صحيح، ثم قد ساق الحافظ المؤلف – ابن كثير - هنا آثارًا كثيرةً في هذا المعنى، مما امتلأت به كتب المفسرين ". كما نبه لذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه القيم: "الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير" (ص183) ].

* والحق أن هذا خطأ من الأخطاء العديدة لكتب أهل الكتاب هذه والتي صححها القرآن؛ لأن الغربان لا تدفن موتاها، بل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدفن موتاه.

بل إن الشمبانزي – الذي يتفق مع الإنسان في 98% من الجينات الوراثية – لا يفعل ذلك كما ذكر الموقع سالف الذكر. وإنما يكتفي بالانتحاب على موتاه بعد أن يدخل عليهم وينظر إليهم بعد موتهم عدة مرات وفي النهاية يغادر المكان. وإن كان الميت وليدًا حملته أمه عدة أيام ثم تتركه أيضًا.

ولسنا مضطرين لقول: إن هذين الغرابين ( القاتل والقتيل ) كانا غرابين خاصين مبعوثين فعل أحدهما ( القاتل الدافن ) فعلًا لم يحدث بعد ذلك من جنس الغربان. كما أن المدقق للنص القرآني لا يفهم منه ذلك؛ لأن القرآن ذكر غرابًا واحدًا, ولأن كلمة: " يبحث " المذكورة في الآية تدل على التفتيش لا الحفر والتنقيب ولا إثارة التراب, كما أن كلمة " يواري " لا يفهم منها الدفن, ولكن يفهم منها المواراة والإخفاء.

*والعجيب أن هاتين الصفتين - البحث والمواراة ( الإخفاء ) - من ألصق الصفات بالغربان لذكائها الشديد. وقد رأيت ذلك واضحًا في مقال بمجلة العلوم الأمريكية العدد 9-10/2007م بعنوان: " ما مدى ذكاء الغربان؟ ". فبعد أن ذكر صاحبا المقال والبحث الذي بني عليه المقال؛ توماس بَجْنيار و ب. هاينرش أن الغربان تستخدم المنطق وأن ذكاءها قد يفوق القردة العليا ذكرا أنها من الحيوانات " الخابئة " أي التي تخبئ طعامها في مخابئ, وأن لها ذاكرات خارقة تستوعب آلاف المخابئ وأنه [ عند توافر جثة موضع صراع تقوم الغربان بنقلها بحماس –كتلة من اللحم وراء الأخرى – وتخفيها بدفنها وتمويهها بفتات الحصى. ] ( صفحة رقم30 )

ثم أورد رسمًا توضيحيًّا لغراب قد دفن فرائسه في مخابئ أشبه ما تكون بالمقابر البسيطة.

[ يلاحظ قطع الأشجار والحصى التي جُلبت بعد "بحث" وتعطي شكل القبر ]



وقد ذكر أن الغربان تخفي طعامها إن كان كبيرًا كفأر أو أرنب تحت الصخور أو تخفيه بفروع الأشجار ومفتتات الصخور. وقد تحفر حفرةً صغيرة إن كان الطعام صغيرًا كبيضةٍ مثلًا ثم تدفنه.

إذًا.. الغربان لا تدفن موتاها مثلها في ذلك مثل سائر الدواب.

الغربان لا تدفن طعامها إلا إذا كان صغيرًا.

الغربان تواري طعامها بقطع الصخور الصغيرة وفروع الأشجار وهو الغالب.

• لذلك كان القرآن دقيقًا حين ذكر المصطلح " يبحث " لا ينقب؛ لأن الغراب يبحث عما يواري به فريسته. كما كان القرآن معجزًا حين قال " يواري " ولم يقل يدفن؛ لأن الدفن أعمق من المواراة, وهو ما لا يفعله الغراب حتى مع طعامه إلا إذا كان صغيرًا كما أن هذه الحالة نادرة والغالب التغطية. والغالب أن غراب ابني آدم كان يواري جسمًا ليس بالصغير لتقترب الصورة أكثر للقاتل فيقلدها, فالغراب لا يدفن موتاه ولا طعامه.

وإنما " يواري " فرائسه وطعامه بعد أن " يبحث " عن أشياء يستخدمها لهذه المواراة.

تفاسير القرآن الكريم:

وقد تنبه بعض قدامى مفسري القرآن فعلًا إلى هذا الأمر. من هؤلاء الرازي الذي قال: قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئًا فتعلم ذلك منه. انتهى [ مفاتيح الغيب (11 / 166)].

• كما قال القرطبي: وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طُعْمِه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه؛ لأنه من عادة الغراب فعل ذلك؛ فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه.

وأخيرًا لم يذكر أي كتاب لأهل الكتاب ندم القاتل المذكور في القرآن بل نقرأ في الميدراش تنحوما بريشيت 9, والميدراش بريشيت رابا 22، 10 أن قابيل قد أصر على عدم الاعتراف بخطيئته وقال مصرا إنه كيف كان يمكنه تصور أن الحجارة التي رجم بها قابيل ستقضي عليه؟

انظر إلى البون الشاسع بين النص القرآني المنطقي والإنساني وبين هذا النص الخرافي العنصري الذي نرى مردوده حتى الآن في ممارسات الدولة الصهيونية الغاصبة ومن شايعها من متصهيني النصارى.

مناسبة ذكر نبأ ابني آدم:

كما أسلفنا القرآن ليس كتاب تاريخ مثل كتب أهل الكتاب التي تبين أنها كتب تاريخ مزيف وخرافي أيضًا. لذلك ذكر العبرة من القصة، والآن نذكر مناسبة موضعها في كتاب الله وهو أمر لا نجده بالطبع في غيره؛ لأنه الوحيد المرتب موضوعيًّا.

جاءت هذه القصة في القرآن بعد ذكر رفض بني إسرائيل طلب موسى بدخول الأرض المقدسة بل وتطاولهم بقولهم لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا } [ المائدة: 24 ]. وهي نفس الجرأة على الله بعد المعصية التي صدرت من ابن آدم إذ قال: لأقتلن الذي تقبل الله منه.( نقل بتصرف من تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ).

كما أن هذه القصة تأتي قبل ذكر الإسراف في القتل في آخر الفقرة القرآنية: { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} ثم ذكر حد قتل النفس والحرابة ( المائدة 33 , 34 ). ( المصدر السابق بتصرف).
:
الخلاصة

مما طرحنا يتبين لنا إعجاز النص القرآني من عدة جهات:
أولًا: الإعجاز الغيبي:


إذ كيف تسنى لرجل أمي يسكن أجهل أرض أن يعلم تفاصيل كتب ملل لم يعلمها أصحابها إلا متأخرًا وعبر فترة زمنية كبيرة جدًّا. وقد كتبت هذه الكتب بلغات عدة وتتبع طوائف شتى, وكان أغلب تلك الكتب نادرًا ومخفيًّا. كذلك كان عددها كبيرًا جدًّا وذات أحجام كبيرة؛ لأن النسخ كان يدويًّا مما يجعل احتمال اطلاعه على تلك الكتب في السر مستحيلًا.
ثانيًا: إعجاز الإحكام:


من إحكام القرآن ألا تجد فيه تفاصيل زائدة لا فائدة لها، وألا تجد فيه تفاصيل غير منطقية؛ كتحول طبيعة الأرض بعد جريمة القتل, وذكر أن سبب وجود الجبال على سطح الأرض هو عقاب لسيلان دم هابيل عليها!! وكاستفهام قابيل السفيه لربه, ومكافأة الغراب بجعل ريش فراخه أبيض اللون!.

ثم إن من إحكامه أن توضع القصة في القرآن مناسبة لما قبلها وما بعدها بعد أن بين الغرض من ذكرها, فهي ليست للتسلية.

ثالثًا: الإعجاز العلمي:


من أدرى محمدًا صلى الله عليه وسلم أن الغراب من أهم الكائنات الخابئة ( الموارية ) إن لم يكن أهمها على الإطلاق وأكثرها ذكاءً وأنه أكثر الطيور مصاحبةً للإنسان ( كما ذكرت مجلة العلوم سالفة الذكر )؟ ولم يقع في خطأ الكتب السابقة زمنًا في ذكر دفن الغربان لموتاها وهو ما يتناقض مع العلم. كما أسلفنا.


رابعًا: الإعجاز البياني:

في استخدام مصطلح " يبحث " بدلًا من يحفر أو ينقب, وكذلك مصطلح " يواري " بدلًا من يدفن كما أسلفنا.

• فهل تعلم صلى الله عليه وسلم القراءة سرًّا, ثم لغات أهل الكتاب سرًّا, وبعد ذلك لم يدع صحيفة من صحفهم - على كثرتها - إلا وقرأها سرًّا؟! حتى وإن كانت كتبًا مخفيةً لا يعلمها إلا كبار أحبارهم! بل لعله كان لديه فريق للتنقيب عن المخطوطات وإرسالها له! فقد ذكر القرآن تفاصيل لقصص لم يعلمها أصحابها إلا باكتشاف مخطوطات في الآونة الأخيرة!.

ثم لاحظ وجود خيط يجمع بين أطراف قصة - كقصتنا هذه - مشتتة في كتب مفرقة فجمعها بعد أن نقاها من التفاصيل غير المنطقية والعنصرية, ثم أضاف إليها من تفاصيل العلم الحديث, وجعل للقصة غرضًا وفائدةً، ثم وضعها في موضعها المناسب في القرآن الكريم؟!

إن هذا هو المستحيل بعينه, ولو كان هناك مستحيل واحد في التاريخ البشري لكان افتراض افتراء القرآن.

وصدق الله العظيم حين يقول: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس: 37 ].